فلاح من دوما

على قارعة رصيف السوق التجاري بالقرب من الجامع الكبير وسط دوما جلس بكري الدالاتي وبجانبه كيس يحتوي بضعة كيلوغرامات من القمح المعفر بالتراب والحصى من موسم العام الماضي حمله معه الى المطحنة في شارع خورشيد لطحنه وتحضير الخبز للعائلة الكبيرة.

يقول الفلاح أبو علي كما يعرف عن نفسه من مزارع العب على أطراف دوما من الجهة الجنوبية لمراسلة سانا بعد أن لفتت انتباهه لوجوب تنقية حبات القمح من الشوائب قبل طحنها “اعتدنا على ذلك .. لا يوجد ماء لغسلها .. نستعين بالجيران للحصول على ماء الشرب”.

اضطر ابو علي بسنواته الثمانين إلى أن يترك أرضه ومزرعته بعد أن حولها الإرهابيون كباقي المزارع المحيطة بدوما إلى أرض للمعارك عبر حفر الأنفاق والخنادق وإقامة السواتر الترابية وتلغيمها وتفخيخها بقصد عرقلة تقدم الجيش العربي السوري 

“الأرض هي العرض” بهذه الجملة أجاب ابو علي بصوت هادىء خفيض أنضجته خبرة ثمانية عقود على سؤال إن كان اشتاق لمزرعته مضيفا “أتمنى العودة بأسرع وقت ممكن”.

من المزرعة علم ابو علي ابنتيه حتى حصلتا على شهادة جامعية وعملتا في التدريس بينما الأبناء الثلاثة الشباب امتلكوا مهنا حرة في الحدادة والنجارة والزراعة وحافظت العائلة على العلاقة القوية بين أفرادها رغم تزويج الأولاد وانضمام خمسة أحفاد .

وبعينين غائرتين وسط وجه أشبه بخريطة من الأخاديد ولحية بيضاء زادت الشيخ المسن رزانة بلباسه التقليدي لرجال الغوطة يتحدث مستذكرا تفاصيل حياته اليومية في مزرعته قبل تهجيره قسرا والسكن مع عائلته في حي الهبيط بمدينة دوما “أرضي تمتد على مساحة 15 دونما نزرعها في الموسم الشتوي بالقمح والشعير والبقدونس والبصل والفجل والسلق والخس والكزبرة والفول والبازلاء” يتوقف قليلا ثم يتابع “كنت بمنتصف نيسان أشحن تشكيلة واسعة إلى أسواق دوما وأحيانا إلى الشام”.

ويتابع أبو علي وقد أراح كفيه فوق بعضهما البعض “أرض العب خصبة تقطنها عائلتي أبا عن جد منذ عدة أجيال بصير فيها كل شيء مثل هذه الأيام نقوم بتحضير الأرض لزراعتها مع بداية شهر ايار كوسا وبندورة وملفوف وزهرة وباذنجان وفليفلة وباميا” موضحا أن عائلة الدالاتي كانت تمتلك ثروة من الأبقار 40 رأسا وتنتج 100 كغ حليب يوميا يتم تسويقها إلى مدينة دوما.

يقص ابو علي كيف كان أفراد الأسرة متعاونين “نتقاسم العمل صباحا قبل أن يذهب الأولاد إلى عملهم وأبقى أنا في المزرعة أحرسها” متذكرا سنوات النعمة التي كانت تعيشها العائلة قبل أن ينتشر الإرهاب بالغوطة” كنا نأكل من كدنا وتعبنا .. بس يعتمد الإنسان على نفسه الله ما بينساه”.

وعند سؤاله عما إذا كان ما زال يمتلك من الهمة ما يكفي للعمل بالأرض رد قائلا “ابدأ .. متل العادة ازرع وانكش واحصد .. انشاء الله نرجع ارضنا ونعيش بكرامتنا”.

لم يكن من السهل انتزاع ضحكة رقيقة من الفلاح ابو علي وهو المتعب المثقل بالهموم إلا أن سؤاله عن أكثر ما يحن إليه في المزرعة وإن كانت الأشجار فيها بمنزلة الأولاد حيث فاض قلبه فجأة بالسعادة قائلا “أحن إلى أشجار الجوز والمشمش /يضحك/ .. أبدا .. الأشجار متل الولاد الصغار”.

وتشتهر غوطة دمشق الشرقية بأرضها الخصبة وتوافر المياه من أنهار صغيرة تتولد من فروع نهر بردى وشبكة من قنوات الري وتضم بساتينها أشجار الفاكهة بأنواعها المشمش والتوت الشامي والخوخ والدراق والكرز والجوز إلى جانب القمح والخضار والذرة والزهور والنباتات العطرية والطبية إضافة إلى أنها كانت تمتلك ثروة من المواشي بما فيها الخيول والجمال.