«قابوس» رحيل الرجل الصامت
آخر تحديث GMT04:43:57
 العرب اليوم -

«قابوس»: رحيل الرجل الصامت

«قابوس»: رحيل الرجل الصامت

 العرب اليوم -

«قابوس» رحيل الرجل الصامت

بقلم : عماد الدين أديب

بوفاة السلطان قابوس تغلق ملفات وتفتح ملفات جديدة فى المنطقة.

لم يكن السلطان قابوس بن سعيد (1940 - 2020)، الذى حكم بلاده نصف قرن من الزمان، شخصية تقليدية فى نظام حكمه، فى توجهاته، فى سياساته الداخلية والإقليمية.

رغم أن عائلته «البوسعيد» التى تولت ثم توارثت تقاليد الحكم فى عمان منذ عام 1744م إلا أن حاكمها الأخير استطاع لمدة نصف قرن أن يرسم سياستها بشكل جديد وجذرى وحديث:

1- أقام السلطان حكماً كان ينتمى إلى قرون سابقة عصرياً فحوّل السلطات فيه من حكم رجل واحد وحيد إلى وجود السلطات التالية:

أ- المجلس الأعلى التشريعى (البرلمان).

ب- المجلس الأدنى التشريعى (مجلس الشورى).

جـ- مجلس وزراء عصرى.

د- دعم الحكم المحلى فى المناطق المختلفة بحيث يتم تفعيل دور الإدارة المحلية فى تسيير شئون البلاد والعباد.

وجعل البلاد تحتل المركز رقم 64 فى اقتصادات العالم.

2- فتح البلاد على العالم أجمع، وفتح الباب للاستثمار، وأقام سوقاً مالية نشطة، وطور إمكانيات طبيعة البلاد الجذابة إلى أن تصبح مقصداً سياحياً، وقدّم لشعبه فرص عمل، وجعل الدولة داعمة للمزارعين والصناعات الوطنية، وخفّض معدل البطالة، وأصبح معدل التضخم 1٪، ووصلت موازنة البلاد إلى 200 مليار دولار، ووصل دخل الفرد إلى 47 ألف دولار سنوياً.

3- أقام فى البلاد دولة انضباط واستقرار بعدما احتوى فى بداية حكمه الثورة فى «إقليم ظفار»، وصالح الجميع على الجميع، ونزع التوجهات القبلية، ومنع تماماً أى توجهات مذهبية بين المذهب «الإباضى»، الذى تنتمى إليه الأقلية، وبقية المذاهب الأخرى، بل إنه منع أن تكون هناك مساجد على أسس طائفية أو مذهبية، بمعنى أن المسجد دار عبادة للجميع.

انفتح السلطان، الدارس فى بريطانيا فى كلية ساند هيرست الشهيرة، ثم الدارس للإدارة فى ألمانيا، والشريعة والقانون فى «مسقط»، على الثقافات والفنون، وجعل من بلاده مقصداً ثقافياً راقياً، وأنشأ دار الأوبرا السلطانية، وجعل ختام الإرسال اليومى للتليفزيون العمانى فيه وجبة موسيقية لكبرى المعزوفات الكلاسيكية الراقية لعازفى الأوبرا العمانية.

المقربون من الرجل يروون عنه أنه كان قارئاً نهماً للتاريخ والآداب، ومن حفظة أهم أعمال روايات ويليام شكسبير ويتقنها باللغة الإنجليزية، وعاشقاً للبحر والصيد والفنون التشكيلية.

هذه المكونات الفريدة شكلت أفكار وخيارات الرجل التى صبغت سياساته ومواقفه على مدى نصف قرن والتى تأثر فيها بالنموذج البريطانى فى الحياة، حتى إنه أعطى الإدارة البريطانية دوراً استشارياً كبيراً فى بلاده.

لذلك كانت عمان فى عهد «قابوس» حالة خاصة فى محيطها الخليجى، والعربى، والعالمى.

مثلاً: منذ يومه الأول أوضح «قابوس» لكل قادة دول الخليج أنه يحترم بشدة علاقاته بهم وأهميتها الاستراتيجية لبلاده، لكنه كان ذلك الرجل الذى يتخذ مواقف وقرارات خاصة بمصالح بلاده حتى لو لم تتفق أو تتطابق مع أشقائه القادة.

كان معروفاً عن «قابوس» -رحمه الله- وسط زعماء الخليج «أنك قد تختلف مع ما يقول لكنك كن على ثقة أن ما قاله لك هو -صدقاً- ما يؤمن به، وما سيفعله».

عرف عنه أشقاؤه من قادة المنطقة أنه ذلك الرجل الذى يقول ما يفعل ويفعل ما يقول.

لذلك لم يكن غريباً عليه أن يكون الحاكم الخليجى الوحيد الذى يخالف إرادة الرئيس صدام حسين فى مؤتمر بغداد الشهير ويرفض مقاطعة مصر بعد اتفاق كامب ديفيد.

فى الوقت ذاته، كان هو الوسيط ومعبر الجسر لنقل صواريخ مصرية وافق على بيعها الرئيس أنور السادات للعراق فى ذروة حربها ضد إيران، مما كان له أعظم الأثر فى حسم المعارك النهائية مع الجيش الإيرانى.

اختار السلطان قابوس أن تكون لديه جسور مفتوحة مع العراق وإيران، ومع السعودية وإيران، وأن يكون عضواً فى مجلس التعاون الخليجى وقنواته مفتوحة مع «الرياض» و«أبوظبى» من ناحية، ومع «الدوحة» من ناحية أخرى.

اختار السلطان قابوس أن ينفتح ناحية المحيط الهندى مع الهند، مع احتفاظه بعلاقات قوية مع باكستان.

واختار أن تكون لديه علاقات تعاون مع قوات التحالف العربى فى اليمن، ومع الحوثيين فى آن واحد.

وكان السلطان هو الزعيم الذى لم يلتق سراً مع قادة إسرائيل، بل استقبلهم جميعاً علناً أمام العالم والإعلام بدءاً من «بريز» وصولاً لـ«نتنياهو» وزوجته منذ أكثر من شهر فى قصره بـ«مسقط».

جعل «قابوس» من «مسقط» مركز اتصالات خلفياً بين معظم أعداء المنطقة، فكانت عاصمته هى مركز لقاءات الإيرانيين والأمريكيين، وزعماء عرب والإسرائيليين، والقطريين وخصوم لهم.

هنا نسأل: لماذا اختار السلطان قابوس هذا الدور الخاص والمتميز والصعب فى الوقت ذاته؟

الإجابة عن هذا السؤال تأتى بالتمعن والتدقيق فى موقع عمان الجغرافى الذى يفرض عليها وعلى كل من يحكمها أن يراعى اعتبارات تفرضها الحدود والسواحل والمنافذ الاستراتيجية:

تقع عمان فى غرب آسيا، وهى منطقة كبيرة فى المساحة، حيث إنها الثالثة من ناحية الاتساع فى الجزيرة العربية، حيث تبلغ مساحتها 309.500 كم مربع، وتمتد سواحلها 3165 كم من مضيق هرمز فى الشمال وحتى الحدود مع اليمن.

وتأتى الميزة الاستراتيجية ومبعث المشاكل فى آن واحد هى أنها تطل على 3 بحار فى الوقت ذاته: بحر العرب، بحر عمان، الخليج العربى.

واكتشف السلطان قابوس من يوم حكمه أن تأثير الحدود الجغرافية مع الجيران هو العنصر الحاكم والأكثر تأثيراً على اتجاهات السياسة والمصالح فى «مسقط»، فبلاده تحدها دولة الإمارات من ناحية الغرب بمساحة 410 كم، والسعودية بـ676 كم، واليمن بـ288 كم جنوباً، ومن الشمال يأتى مضيق هرمز، ومن الشرق بحر العرب.

باختصار سلطنة عمان موقعها فريد ومتميز وخطر!

توفى السلطان قابوس بعد صراع طويل مع «سرطان القولون»، لذلك أدرك الرجل، بشعور من المسئولية، وفهم عميق للتاريخ، أن الانتقال السلس للسلطة هو ضمانة استقرار واستمرار الدول والحضارات.

لذلك قام بإيداع رسالة رسمية يحدد فيها أسلوب انتقال الحكم عقب وفاته حسب النظام والعرف، ويعطى فيه مهلة لسلطة البيعة باختيار من يخلفه، فإذا تعذر ذلك بعد 3 أيام من وفاته يتم فتح رسالة يرسّم فيها خليفته للحكم ويكون ذلك أمراً ملزماً.

إذاً استطاع الرجل أن يقدم صيغة متميزة تجمع بين «الشورى» من ناحية واحترام الحق فى التوريث من ناحية أخرى.

اضطر السلطان قابوس إلى هذه الصيغة لأن الحياة لم تهبه أى ذرية ولم تهبه شقيقاً من الذكور، بل كانت لديه شقيقة واحدة هى السيدة أميمة.

بقى فى عائلته أعمامه: طارق وماجد وفهر وشبيب وصهيب بن تيمور، وهؤلاء لهم الحق هم أو أبناؤهم فى أن يلى العرش من بعده بناء على نصوص الدستور المسمّى بالكتاب الأبيض، وبناء على ذلك تمت تسمية وتولية السلطان هيثم بن طارق بن تيمور السلطان العاشر لعمان.

وهؤلاء تقريباً هم القوى النافذة التى سيكون لديها تأثير فى رسم خطوط الحاضر والمستقبل.

برحيل السلطان قابوس، يكون قد انتهى الآباء المؤسسون لمجلس التعاون الخليجى، ولم يعد منهم بعده من هو فى دنيانا هذه.

وبرحيل السلطان قابوس، رحل حاكم اختار لنفسه ولبلاده سياسة خاصة مهما اتفقت أو اختلفت معها فهى واضحة وشفافة واستطاعت أن تبنى بلداً عصرياً فى حياته وأن تحدث انتقالاً سلساً وسلمياً للسلطة فور وفاته.

رحم الله السلطان قابوس.

syria

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«قابوس» رحيل الرجل الصامت «قابوس» رحيل الرجل الصامت



GMT 15:47 2020 السبت ,11 تموز / يوليو

اسرائيل تعاني ونتانياهو يعتمد على اليمين

GMT 17:16 2020 الخميس ,09 تموز / يوليو

الكونغرس لا يريد بيع السلاح الى العرب

GMT 16:25 2020 الثلاثاء ,07 تموز / يوليو

أخبار من السعودية والولايات المتحدة وأوروبا

GMT 13:15 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

معارضة عزم اسرائيل ضم الضفة الغربية

GMT 15:24 2020 السبت ,20 حزيران / يونيو

كتاب ومقال أعرضهما على القراء

GMT 09:55 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج السرطان 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2020

GMT 11:27 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يبدأ الشهر مع تلقيك خبراً جيداً يفرحك كثيراً

GMT 16:55 2020 الأحد ,01 آذار/ مارس

مناخا جيد على الرغم من بعض المعاكسات

GMT 13:43 2019 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

إبقَ حذراً وانتبه فقد ترهق أعصابك أو تعيش بلبلة

GMT 10:25 2019 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

يراودك ميل للاستسلام للأوضاع الصعبة

GMT 17:23 2018 الأحد ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

اختفاء جزيرة يابانية قرب الحدود الروسية

GMT 14:24 2018 الخميس ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

بوكو حرام تقتل 15 إثر هجوم على قرويين في نيجيريا

GMT 11:11 2018 الثلاثاء ,24 إبريل / نيسان

لاغارد تعلن إجراءات مشددة للتصدي إلى الفساد

GMT 10:00 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العذراء 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2020

GMT 09:22 2020 الثلاثاء ,24 آذار/ مارس

أبرز ديكورات غرف المعيشة لموسم صيف 2020

GMT 14:59 2020 الإثنين ,27 كانون الثاني / يناير

أكسسوارات لإعطاء المنزل طابع يشبهك

GMT 12:01 2019 الثلاثاء ,02 تموز / يوليو

تنتظرك أجواء غير حماسية خلال هذا الشهر

GMT 16:38 2019 الأحد ,06 كانون الثاني / يناير

السيدات يسيطرن على الاستخبارات المركزية الأميركية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Syria-24 Syria-24 Syria-24 Syria-24
syria-24 syria-24 syria-24
syria-24
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
syria-24, syria-24, syria-24