لماذا القلق على بيروت
آخر تحديث GMT04:43:57
 العرب اليوم -

لماذا القلق على بيروت؟

لماذا القلق على بيروت؟

 العرب اليوم -

لماذا القلق على بيروت

حازم صاغية
حازم صاغية

مع انطلاق ما عُرف بـ«إعادة الإعمار»، استخدمت شركة «سوليدير» شعار «بيروت مدينة للمستقبل». اليوم، تواجه المدينة أزمة قد تدفعها، للأسف الشديد، لأن تغدو مدينة للماضي.

بادئ بدء، مدن العالم كلها مأزومة اليوم: الغلاء يطرد سكانها فيما التعليم والعمل من المنزل، بعد كورونا، يسهّلان الاستغناء عن المكتب. وإلى الكثافة الديموغرافية وانكماش الخدمات العامة وتضخم مركزية العواصم، جاء الوباء الأخير ليضرب بعض معالم المدن: المطعم والمقهى والفندق والمسرح والمتحف ودار السينما وحديقة الأطفال. إذن، يُرجّح أن تتنامى العودة إلى الريف، وأن ترفعها أفكار تكره المدن إلى سوية العودة إلى الله.

مع بيروت، تُضرب هذه الأزمات بألف. ذاك أنّ تلك المعالم ليست مكملة للمدينة. إنّها المدينة: على هذا النحو صنعتها التجارة والبحر والخدمات. يكفي تخيل بيروت من دون الجامعة والمصرف والمستشفى والفندق والمطعم والجريدة ودار النشر، ومعها الزوار العرب والأجانب...

اليوم يحدّق ملاك الموت بالمعالم هذه، واحداً واحداً.
كورونا والإفلاس المالي وتصدّع شرعية النظام، وقبلها جميعاً بندقية «حزب الله» الطاردة للبشر وللمال، تضافرت لإنجاز المهمة. الاجتياح الإسرائيلي في 1982 كان محطّة بارزة في هذه المسيرة الطويلة المعقّدة. لكنّ المحطة الأشد تأثيراً على المدى الأبعد كانت طريقة الردّ على الاجتياح. المدينة استبيحت في الثمانينات وصارت ضاحيتها المسلحة، لأنّها مسلحة، أهم منها. البندقية مذاك بدأت تتغلب على الجامعة والمصرف والمستشفى والفندق والمطعم والجريدة، ومعها الزوار العرب والأجانب.

هذا لا يعني أنّ البناء السياسي والاقتصادي اللبناني كان سليماً، لكنّ الأساسات كانت موجودة كي يُبنى عليها: البرلمان والانتخابات، قطاع صناعي معقول (مواد غذائية ونسيجية وأحذية ونشر وطباعة...)، جامعات وصحف إلخ... والأهم: العلاقة بالعالم.

تاريخ بيروت لا يقول إلا هذا. في أربعينات القرن 19 كان سكانها ثمانية آلاف. لكن تعاظم أهمية الساحل، بسبب نمو التجارة، كبّر وزنها. السلع الأوروبية المصنّعة بدأت، بسبب الثورة الصناعية، تغزو أسواق السلطنة، وحملة إبراهيم باشا السورية (1832 - 40) باشرت ربط المنطقة بالعالم. في 1848 ارتفع عدد السكان إلى 15 ألفاً. في مسار الصعود هذا، كان يمكن حتّى للحروب أن تنتج بعض الفوائد. حروب الجبل الطائفية دفعت بمسيحيين كثيرين إلى بيروت. في 1888، إبّان المتصرفية، جُعلت بيروت عاصمة لولاية ضمت كامل الساحل السوري، بما فيه فلسطين. مع نهايات القرن، ارتفع السكان إلى 120 ألفاً. في تلك الغضون ازدهرت الإرساليات الأوروبية والأميركية، البروتستانتية والكاثوليكية. كان من ثمار الازدهار الجامعتان الأميركية (1866) واليسوعية (1881). المطابع التي تكاثرت بسبب الجامعات والمدارس أحدثت ثورة في النشر وصناعته. الصحافة حضرت. المثقّفون حضروا ومعهم الدعوات النهضوية والإحيائية على أنواعها.
الانتداب الفرنسي في 1920 أوجد لبنان الكبير وجعل بيروت عاصمته. الجمهورية اللبنانية أعلنت في 1926. النمو الاقتصادي المتسارع وسّع بيروت وضاعف ازدهارها، فيما التوتّر السياسي والطائفي كان ينمو أيضاً: نكبة 1948 ثم صعود الناصرية ودائماً مناكفات الطوائف وتوزيع الحصص. القنابل الموقوتة تلك انفجرت انفجارها الصغير في 1958، ثم انفجارها الأكبر في 1975 مستفيدة من الحضور الفلسطيني المسلح ومما استدعاه من سلاح مقابل. غزو إسرائيل في 1982 أنهى حقبة واستهل أخرى.
لكنْ بين 1952 و1975، وباستثناء الانقطاع القصير في 1958، تولى الاستقرار السياسي والانفتاح على الغرب والعرب معاً، جعل بيروت ما صارته: مركزاً إقليمياً وتعليمياً وثقافياً، جاذباً للرساميل... مرونة النظام المصرفي والمنطقة الحرة في المرفأ وجدا ما يستكملهما في تعليم جيد ينتج الطواقم التي تتطلبها إدارة اقتصاد رأسمالي. الحرية البعيدة نسبياً حولت المدينة رئة وحيدة في صدر المنطقة الضيق. الأنظمة العسكرية في الجوار لم تَرقْها حريات لبنان الإعلامية: نسيب المتني اغتيل في 1958. كامل مروة في 1966. ميشال أبو جودة خُطف إلى سوريا في 1973. صار هذا السلوك تقليداً بعد نشأة الوصاية السورية لاحقاً: سليم اللوزي، سمير قصير، جبران تويني.
الطوائف وتحالفاتها الخارجية كانت تنخر هذا البناء... مع هذا فحرب 75 لم توقف الاقتصاد كلياً. استمرت سلع لبنانية زراعية ومصنّعة تلبّي السوق الداخلية والأسواق العربية، وظل الإعلام والنشر. السياحة مضت تقتنص فرص الهدوء بين مواجهتين أو حربين.
إعادة الإعمار الحريرية بنت بعض ما دمره المسلحون لكنّها بنته بأكلاف ومديونية مرتفعة وبتوسيع للفجوات بين الطبقات والمناطق كما بين القطاعات الاقتصادية. إلا أنّ العامل الأكثر تسبباً بالانهيار كان عدم إقلاع المشروع السلمي الذي بدأ مع أوسلو في 1993. هذا السبب الإقليمي نفسه هو ما أودى، بعد عقد ونيف، بصاحب إعادة الإعمار وبعض رفاقه.
هناك تفاصيل كثيرة تستكمل الصورة وتنبّه إلى تعقيداتها مما لا تتّسع له هذه العجالة. هناك عوامل جزئية لا بد من تناولها تجنّباً للتبسيط. لكنّ العامل الأهم والأبرز للانهيار يبقى ذاك التحالف بين مفاعيل الطائفية والاتّجاهات الراديكالية الكارهة للغرب وللعالم. هذا التحالف، الذي لا يزال يحكمنا، هو صاحب الخنجر الأكبر الذي زُرع في صدر بيروت، والذي قد يردّها مدينة للماضي.

 

syria

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لماذا القلق على بيروت لماذا القلق على بيروت



GMT 17:14 2021 السبت ,13 شباط / فبراير

مئويتان

GMT 18:18 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

من شعر الفرزدق وجرير وأبو تمام

GMT 13:36 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

ذهبت ولن تعود

GMT 17:58 2021 الجمعة ,05 شباط / فبراير

ما في أنفسهم

GMT 10:51 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجدي الإثنين 6 أكتوبر/تشرين الأول 202

GMT 09:02 2019 الأربعاء ,03 تموز / يوليو

تنتظرك تغييرات كبيرة في حياتك خلال هذا الشهر

GMT 11:34 2019 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

تبدأ الاستعداد لبدء التخطيط لمشاريع جديدة

GMT 11:19 2019 الثلاثاء ,02 تموز / يوليو

تنتظرك أمور إيجابية خلال هذا الشهر

GMT 11:12 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

تحقق قفزة نوعية جديدة في حياتك وانطلاقة مميزة

GMT 13:01 2021 الجمعة ,15 كانون الثاني / يناير

زيدان يدافع عن هازارد عقب الهزيمة أمام أتلتيك بيلباو

GMT 14:43 2019 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب والتدخل الروسي وقضية أوكرانيا

GMT 13:43 2020 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عشرات القتلى في جنازة قاسم سليماني

GMT 08:15 2019 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

لوحات تحكي بلسان الأطفال في معرض لون وحب لسناء قولي

GMT 09:34 2019 الجمعة ,04 تشرين الأول / أكتوبر

انكماش الاقتصاد البريطاني بعد تدهور للخدمات
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Syria-24 Syria-24 Syria-24 Syria-24
syria-24 syria-24 syria-24
syria-24
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
syria-24, syria-24, syria-24