المصالحة مع الأرض
آخر تحديث GMT04:43:57
 العرب اليوم -

المصالحة مع الأرض

المصالحة مع الأرض

 العرب اليوم -

المصالحة مع الأرض

آمال موسي
آمال موسي

صحيح أن الصيد هو مهنة الإنسان الأولى، ولكن الزراعة مثلت حدثاً قوياً في تاريخ الإنسانية، إذ معها بدأ الإنسان في كتابة فكرة الاستقرار في مكان بعينه وتغيير نمط التنقل والترحال ومشقة العيش على الصيد ومغامراته. انطلق الإنسان في مصادقة الأرض ورسم لوحة لا تنتهي أبداً عندما أحاط مسكنه الأول بالزرع والماشية.

وعلى امتداد العصور القديمة والوسطى والحديثة كانت الزراعة ركناً أساسياً من أركان معاش المجتمعات، حتى ولو كان توزع الأراضي الصالحة للزراعة يختلف من بلد إلى آخر. غير أنّه مع تقدم الصناعة وانتشار المصانع والمعامل وهيمنة المناطق الحضرية على الريف، حصل نوع من العزوف عن العمل الزراعي، ومال الشباب نحو الأعمال المنتمية لقطاعات مثل الصناعة والتجارة والسياحة، وتراجع الشغف بالأرض والفلاحة وامتلاك الأراضي وانتظار المحصول، وتراجع مع ذلك الشغف رأسمال قيمي وثقافي برائحة التراب والأيادي الفرحة بالحصاد والمجبولة على جمع الثمار. فالعلاقة بالأرض عن طريق الزراعة تمثل أيضاً طريقة في الشعور والتفكير ونظرة كاملة للحياة بكل تفاصيلها الحميمة والخاصة والجماعيّة.
الآن في هذه اللحظة العصيبة التي يعرفها العالم حيث لا هاجس غير الغذاء، وحيث أجبرنا الحجْر الصحي على ملازمة البيت ولا خروج منه إلا بسبب يتصل بالغذاء، فإننا نجد أنفسنا أمام حقيقة أهملنا جوهرها منذ عقود، وهي أن الأرض هي الأم الحنون؛ منها نعيش وبها نحيا وأيضاً إليها نعود. والأرض هنا لا نقصد بها الكوكب بقدر ما نركز على أراضي هذا الكوكب الحبلى بالغذاء المانع للجوع. المشكلة أنه حتى الدول التي لم تسقط من اعتباراتها أهمية الزراعة، أو ما يسمى علم فلاحة الأرض، فإنها انخرطت في استنزاف الأراضي الفلاحية بالهندسة الوراثية من خلال بذور معدّلة كي تنبت بشكل أسرع وأكبر من حيث المحاصيل. أي أن الفلاحة بما تعنيه من عملية لإنتاج الغذاء والعلف والألياف عرفت مبالغات في النهم وفي إرباك النظام الطبيعي للتربة، فحصل تدهور شمل قرابة ربع أراضي العالم، ومن مظاهره انحلال التربة وتلوث المياه الجوفية بسبب السماد غير الطبيعي. لذلك فمن سنوات وبعض العلماء يتحدثون عن تدهور حاد في المستقبل يطال إنتاج المحاصيل الزراعية. ومن سنوات أيضاً بدأت تطلق صيحات الفزع حول مشكلة الماء وما تعيشه البيئة من ضغوطات وطبقات المياه الجوفية من استنزاف.
الرد الوحيد على صيحات الفزع والتهديدات التي بات يعرفها الأمن الغذائي غير المتحقق بالشكل المطلوب إنسانياً وعالمياً، هو ما يسمى بالفلاحة البيولوجية التي هي الفلاحة الطبيعية بالسماد الطبيعي ووفق قوانين الطبيعة والمناخ التي خضع لها الأجداد في السابق.
وها هو «كورونا» يذكرنا بحجم الإهمال والورطة التي وضعت فيها الإنسانية نفسها. فالقطاع الأكثر قدرة على الصمود أربكنا نظام وتيرته وقلصنا من رهاننا عليه، الأمر الذي جعل السلسلة الغذائية مهدّدة أكثر. فالحجْر الصحي عطّل الصناعة، والسياحة توقفت والفنادق فارغة من السياح، والعملة الصعبة أضحت صعبة أكثر وحركة التصدير والتوريد شبه مشلولة.
كما أن هذه الأزمة التي أقعدت العالم بالبيت وأوقعته في الحجْر بمختلف معانيه لا أحد يستطيع تكهن تاريخ محدد لانقشاعها، حيث هناك من يتحدث عن أشهر طويلة، وتصارح منظمة الصحة العالمية البشرية بأنه عليها أن تتعود على نمط جديد من الحياة... وكل هذه الأحاديث المخيفة تزيدنا قناعة بأن الحل في الفلاحة أولاً، على الأقل لضمان الحد الأدنى من الغذاء وتأمين ما يضمن الحياة للسكان.
ولعل بلداننا العربية التي انخرطت من دون حساب في قطاعات مختلفة وأهملت الفلاحة وتشجيع الفلاحين، مطلوب منها لمواجهة واقع العزلة المفروضة تدارك حال الزراعة وما عانته الفلاحة من إهمال بسبب تحول الوجهة نحو السياحة التي استنزفت الكثير من الموارد والأموال.
والغريب أنّه حتى عندما أضر الإرهاب بالسياحة وزرع الخوف في قلوب أصحاب رؤوس الأموال الذين خفتت حماستهم للاستثمار في بلداننا، بما في ذلك الرأسمال العربي نفسه، لم تراجع غالبية البلدان العربية سياساتها الاقتصادية وظلت مصر وتونس والمغرب بشكل خاص معتمدة على السياحة من دون الانتباه إلى أن الفلاحة هي عصب أي اقتصاد قوي ومستدام، وأن الفلاحة هي التي تمكنها من مواجهة الأزمات في عالم بات يعيش من سنوات طويلة على وقع التوترات والإرهاب وتداعياته الاقتصادية.
نعتقد أن أزمة فيروس «كورونا» ومأزق العزلة يدفعاننا إلى العودة إلى العمود الفقري للاقتصاد والمجال المنتج للغذاء: الزراعة. ففي هذه اللحظة حيث التعويل على الذات الوطنية وعلى الحلول الذاتية تتضاعف أهمية الفلاحة ولا طريق أمام العالم وأمام البلدان العربية إلا تحفيز الشباب على العمل الفلاحي ومساعدته مادياً بقروض ميسرة أو من دون فوائد.
لا شيء سيمكننا من مقاومة الأزمة الاقتصادية القادمة بقوة ومجابهة شبح الجوع وأرقام الفقر المتضاعفة غير الرّهان على الزراعة التي تجلب الغذاء للسكان ومن ثم أهم أبعاد الأمن. هكذا نتصالح مع الأرض: الأم الحنون.

 

syria

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المصالحة مع الأرض المصالحة مع الأرض



GMT 17:14 2021 السبت ,13 شباط / فبراير

مئويتان

GMT 18:18 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

من شعر الفرزدق وجرير وأبو تمام

GMT 13:36 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

ذهبت ولن تعود

GMT 17:58 2021 الجمعة ,05 شباط / فبراير

ما في أنفسهم

GMT 11:29 2019 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

يفاجئك هذا اليوم بما لم تكن تتوقعه

GMT 13:17 2020 السبت ,02 أيار / مايو

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 15:34 2016 الخميس ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

برج العنزة..خجول وحساس وكريم تجاه الأشخاص الذين يحبونه

GMT 17:42 2021 الإثنين ,01 آذار/ مارس

استيعاب إدارة بايدن

GMT 10:45 2019 الثلاثاء ,16 تموز / يوليو

الجارالله يكشف موقف الكويت تجاه الإخوان

GMT 16:53 2019 الإثنين ,11 آذار/ مارس

فساتين خطوبة مكشوفة الأكتاف موضة الموسم

GMT 18:23 2018 الإثنين ,29 تشرين الأول / أكتوبر

مبادرة بيئية لتحسين واقع النظافة بجزيرة أرواد في طرطوس

GMT 08:55 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

أمسية حوارية للقصة القصيرة بأدبي جدة الأربعاء
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Syria-24 Syria-24 Syria-24 Syria-24
syria-24 syria-24 syria-24
syria-24
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
syria-24, syria-24, syria-24