"ماذا يعني أن تَصيد طائر نجاتك ثم تهجس بامرأة أو جغرافيا تُبقيك على قيد الأمل؟" هذا ما يُجيبنا عنه الشاعر أحمد م أحمد في ديوانه الأخير "أصيد طائر كوليريدج" (دار المتوسط) مقتبسًا "أغاني البحار القديم" للشاعر الإنجليزي صامويل تايلر كوليريدج (1772- 1834)، وناسجًا رحلة عهده الجديد بأسفاره الجنائزية، المملوءة بالذعر، والتيه، والألم، والحنين الدامي إلى الأنا المتوارية والنحن الشبيهة.
وبرغم الموت المُتكرِّر في ثنايا المجموعة، وطائر "القطرس" الذي يُطِلُّ برأسه بين الفينة والأخرى كضحية لا بُدَّ منها، إلا أن نفحات الفرادة هي ما يروي "عُشبة الشِّعر" عند صاحب "أحرق سفنه إلا نعشًا"، إذ يأبى إلا النهوض باللغة كتميمة إضافية تُبْعِدُ عنه شبح الضَّياع في أطلس الرَّحيل، فكيف إن كانت الرحلة من النَّفْسِ وإليها، بحيث تتكثَّف المعاني، وترتسم خرائط الوجع والأنين من جديد، ومن فَرْط الأمل يأتي الغيم ليروي تلك العشبة. يقول أحمد: "لا تجزعوا، تلك التي تتدحرج على وجناتكم، هي دموع أمّهاتكم. لا تجزعوا، تلك الأجنحة اللامرئيّة التي تصفقُ وجوهكم، أرواحُ أبنائكم، لا يخيفنّكم السّواد، ثمّة شجرٌ ذكيّ كثير يخبّئ أخضرَه في صلواتكم، لا تجزعوا، في البلادِ كثيرٌ من الأكفانِ والنّعوش، وما يكفي من حيطانٍ لأوراق النَّعِيّ، وعزاء قليل التكاليف، لا تجزعوا، إنهم موتاكم يهلّلون لأصدقاء حديثين سيشغلون بعضًا من مقاعدهم الفاغرة، وأنتم، أيضًا، هللوا: أنا باقٍ، باقٍ، حتى أُتوِّجَ حفيدي".
إنه تمرين مستمر على النَّجاة، وتصويبٌ لبوصلة المخيِّلة، بحيث تتخلّى عن تشابه التضاريس، وتماهي الحدود، وتبذل ما استطاعت لتكون خصبةً ونَديَّةً، ومهما كانت بساطة الصورة التي تمتثل لها، إلا أنها تُعيد ضَبْطَ الإضاءة وكثافةَ اللَّونِ والشُّعورِ ودُموع موسيقا الكلمات، لتبدو القصيدة مديدة في طزاجتها وأثَرِها.
"الكفن بكاءٌ أبيض.. العماءُ العزاءُ.. يقول الحبر الجينيُّ: إن الإيديولوجيا.. مَسرَبُ الغرائز، ثم يوقِّع بالأحرف الأولى.. اتفاقية فتح الحدود.. مع مؤسسات الأنا الأعلى".
ولا يكتفي "أحمد" بإبحاره وحيدًا مع أغنياته، بل يجعلنا مثله توَّاقين لأن "نلوذ بالأرض اليباب" ونُتدرَّب على ألا يشبه سُعالنا سعالَ آبائنا، إذ لا يُريد لنا أن نكون البحارة الموتى في قصيدة "كوليريدج"، ورغم أحزانه التي يبثُّها في ثنايا نصِّه الطويل كقوله: "وجهي الكانَ سوريًّا جنازةٌ.. صفقةٌ سريعةٌ لميتٍ لم يتّسع له الوقتُ لكي يغتبطَ بزبالةِ آخرِ الليلِ في زيجةِ العدم.. أُشَيِّعُني، وكلانا.. الميتُ، والميتُ"، إلا أنه يُريدنا أن نكون ناجين مثله من ذاك التشييع المديد، ومثخنين بالأمل، لدرجة أنه يجذبنا للامتثال لما قاله: "كان وكنا الناجين على قشّة في منقار حمامة عادت من البر، كنا الذبيحة المتدحرجة من الطوطم العليّ.. إلى نحر القبائل".
الروائي "محمد حسين" يُشاركنا محبة نص "أحمد م أحمد" الذي أقيم له مؤخرًا حفل توقيع في "مقهى الست" بطرطوس قائلًا: "للوهلة الأولى قد يظن القارئ أن نص "أصيد طائر كوليريدج"، جنّازًا أو مرثية لموتنا جميعًا، لكن هذا الظن الإثم لا يلبث أن يتبدَّد بعد الولوج من عتبة العنوان، عبر لهاثه الأول "لي أخ قديم"، ثم عبر تسعة مقاطع يقود لا وعينا المُثقَل إلى الأحاديث عن "التسعة الرهط المفسدين"، فنتتبعه منصاعين لغواية خلخلة المعنى، ننشد الخلاص، متمسكين بخشبة إهدائه "إلى غير المصدقين"، لعلنا ننجو!".
ويضيف "حسين": "يعيد أحمد صياغة سِفر الحزن متنقّلًا بين الهو والهُم والأنا والنحن، ناحتًا من لبّ روحه مفرداته الخاصة، "تَوَغْدَنَ"، "الكوتكس"، "البامبرز"، "هَرْهَرَ"، "السابلة"، وكأنه لا يعيد صياغة أسطورة الخلق فقط بل يهدينا ما أبدعه هو من عوالم غضّة في لغة لا تشبه إلا نفسها، وصور يملك براءة اختراعها وحده.
يقول أحمد: "كان الولد الأب أرعن كأمواس الحلاقة.. فَرْفَط أشباحه الصِّيد في البيت العتيق، نسي الجوهر وسرق أحذيتنا من الجوامع، نَبَحَ خلف عربات الراهبات فأسميناه أنت".
في نصّ "أحمد" اللاهث، كما يوضَّح "حسين"، لا يكفّ الموت عن الحضور بأشكال متعددة تأخذ ألف لبوس ولبوس حتى في لحظات الوصال الحميمة وكأن الشاعر يعلن القطيعة مع كل هذا الماضي، الآفل الآسن:
"جنائزي سِفرنا الأخير.. حبيبان كحدي شفرة الناسيت.. تبتلعين، مذعورة، ما استطعت منّي في حمّى الجنس الأخير، وأنا ألوذ بالأرض اليباب، أدرّب سُعالي على ألا يشبه سُعال أبي"، أو حين يقول: "الرؤوس حبّات سُبّحة حول خيط العدم".
يتابع "حسين": وفي مثل هذه الأجواء الضاغطة يحضر سيزيف ضارعًا كحقيقة أزلية كأنه يضع الملح في بؤبؤ اللحظة الراهنة، لعلنا نرى هول الفجيعة فنقول معه: "كلّ معركة خاسرة، أريد العودة إلى المرآة السوداء". ولا يشفي غليله كل ذلك فيعلنها بكل صراحة على لسان طفل سوري: "سأخبر الله بكل ما رأيت"، في مستهل سورياليزماته القادمة وهنا يصطادنا أحمد كما اصطاد طائر كوليريدج الحاضر الغائب في النص، وكأنه يريد لنا أن نكون الطريدة والصياد معًا، فهو يصطادنا جميعًا ولا يحمل جثته طوق نجاة فقط أيضًا، بل يدعونا لتتبعه في صلاته حاملين جثثنا على هاماتنا في رحلة تطهيرية نحن أحوج منه لها أقله لكي نستعدّ لموتنا القادم بكامل قيافة الموتى الأحياء: "وأننا نزرر قمصاننا، ونتأهب لموت أنيق تحت نيران صديقة"، ثم يسارع في نصه اللاحق لتحذيرنا من التحول إلى "جثث تبيع الجثث"، فيقول زاجرًا حانقًا هذا: "يؤسسّ لجثّة ضوء أكفانها الأنقاض"، "قبرنا الآن ينزّ الماء في منتصف صرخة بين العطشين"، ورغم كل هذا الأسى يعلنها أحمد وبكل فروسية الشاعر، واعدًا إيانا: "أن لا تكف مصانعي.. عن إنتاج "لا" والـ"ليس".. أن يكمل أوديبي رحلته.. من رحم الريبة.. إلى جدث الشك".
قد يهمك أيضًا:
نجمة تعود إلى الجزء الرابع من الهيبة اليكم المفاجأة!
أنجيلا بشارة طليقة وائل كفوري تكشف للمرّة الأولى عن حقائق صادمة
أرسل تعليقك